نظام الانتداب والممارسة الصهيونية
في 24 تموز (يوليو) 1922 صادق مجلس عصبة الأمم على نظام الانتداب على فلسطين وفي 29 أيلول (سبتمبر) 1933 سرى مفعول هذا النظام رسميا على البلاد.
وبذلك انتهت المماحكات بين الدول الكبرى حول تقسيمات التركة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، واكتسبت بريطانيا التي كانت تسيطر على فلسطين فعلا منذ أن احتلتها قواتها عام 1917 "حقا شرعيا دوليا"! في البلاد.
وأصبح في وسعها أن تمارس "وعد بلفور باعتباره جزءا لا يتجزأ من نظام الانتداب.
وفي هذا الإطار لا يمكن اعتبار نظام الانتداب مجرد وثيقة شكلية منحت بريطانيا "الوجود الشرعي الدولي" في فلسطين، فقد وضع هذا النظام الأسس لإقامة ما وصفته لجنة بيل الملكية البريطانية- التي حققت في فلسطين عام 1937-"حكومة داخل حكومة" حين استوحت نصوصه مفهوم وعد بلفور.
وهكذا أكد البند "ج" من المقدمة مسؤولية بريطانيا الدولة المنتدبة، على وضع تصريحها في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 موضع العمل "تنفيذا لإنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي". فبذلك يتم "الاعتراف بما للشعب اليهودي من الصلة التاريخية بفلسطين وبموجبات أقامتهم من جديد لوطنهم القومي في تلك البلاد" (البند من المقدمة).
ولم يكتف نظام الانتداب بهذه المقدمة، بل دعا في الفقرة (4) إلى الاعتراف بوكالة يهودية تنصح إدارة فلسطين وتتعاون معها فيما قد يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود. كما أكد في الفقرة 6 أن على إدارة فلسطين أن تسهل الهجرة اليهودية في أحوال مناسبة "وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في الفقرة (4) استقرار اليهود المتراص على الأرض ومنها ما لا يحتاج إليه للمقاصد العامة من أراضي الحكومة والأراضي البور"(1).
كذلك نصت بنود الانتداب هنا وهناك على ضرورة تجنب ما من شانه أن يجحف بالمجتمعات "غير اليهودية" القائمة في فلسطين وعلى صيانة حقوقها المدنية والدينية. ولكن مجرد الاصطلاح "غير اليهودية" عمق الوعي بتجاهل الإمبريالية البريطانية والصهيونية حقوق الشعب العربي القومية بل بمجرد وجود ذلك الشعب أصلا- من ناحية، وأكد خضوع حقوق "غير اليهود" المدنية والدينية لعملية بناء الوطن القومي اليهودي.
فالفقرة (2) وضعت على بريطانيا مسؤولية "وضع البلاد فيما يضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي". كما وضعت عليها مسؤولية "تطوير منشآت الحكم الذاتي".
ولكن الأمر المقرر لم يكن تطوير منشآت الحكم الذاتي بل إنشاء الوطن القومي، ولذلك فشلت المحاولة الأولى لإقامة المجلس التشريعي عام 1922. وفشلت بعدها المحاولات التي جرت لإقامة حكم وطني في البلاد. رسمية كما كانت في عام 1926، وغير رسمية كما في عام 1929.
ويذكر محمد دروزة في كتابه "حول الحركة العربية الحديثة" في هذا الصدد أن مساعد السكرتير العام ملز اتصل في عام 1926 ببعض القوميين العرب وبينهم (الكاتب ورفيق التميمي وعمر الصالح البرغوثي ورشيد الحاج إبراهيم ومعين الماضي) وباحثهم بشأن تعديلات دستورية تخلق الظروف لإقامة حكم وطني، واقترح عليم إقامة هيئة تمثيلية عربية لهذا الغرض، وفعلا عقدوا المؤتمر القومي العربي السابع في حزيران (يونيو) 1928 تحقيقا لذلك ولكن تعارض الحكم الوطني مع مصالح الإمبريالية والصهيونية جمده وانتهى أمره.
هذا على الرغم من أن القوميين العرب الذين باحثهم ملز قبلوا بمبدأ تعيين نصف أعضاء مجلس الأعيان وانتخاب مجلس النواب وأقروا تعهدات بريطانيا الدولية، واكتفوا بان ينص الدستور على تحفظ جاء فيه "أن أهالي فلسطين لم يستشاروا فيما اتخذته حكومة بريطانيا من تعهدات دولية بشأن بلادهم".
واقترح العرب- وهذا الذي على ما يبدو دعا المندوب السامي إلى القول أن بعض المقترحات متعذر العمل بها- أن يكون أمر الهجرة اليهودية بقرار يوافق عليه البرلمان تراعي فيه مصالح الأهالي العرب والبلاد الاجتماعية والصحية والاقتصادية والأخلاقية والسياسية والدينية (الجزء الثالث ص54 و273- 275).
أما المحاولة غير الرسمية فقد أجراها الوكيل البريطاني المعروف، الذي قام بدور كبير في العربية السعودية جون (عبد الله حين أسلم) فيلبي.
ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1929 وصل إلى البلاد، بعد أن اجتمع مع بعض قادة الحركة القومية العربية في سوريا، يحمل مشروعا لتسوية القضية الفلسطينية عرضه على القوميين العرب في فلسطين وباحثهم بشأنه وتوصل معهم إلى اتفاق يمكن تلخيصه على الوجه الآتي:
· تدار فلسطين على أساس جمهوري دستوري ديمقراطي.
· الهجرة حرة وخصوصا للعرب واليهود مع اعتبار مصالح البلاد وطاقتها.
· تكمن السلطة التشريعية بكاملها في مجلس ينتخبه المسلمون والمسيحيون واليهود.
·تكون السلطة التنفيذية في مجلس وزراء فلسطيني يتألف من عرب ويهود بموجب نسبتها ويجري التوظيف في المناصب العالية على الأساس النسبي.
· يتحمل المندوب السامي البريطاني مسؤولية الأمن حتى تغدو حكومة فلسطين قادرة على القيام بهذا العبء حسب رأي عصبة الأمم.
· يحق للمندوب السامي نقض "فيتو" أي قانون يتعارض مع التزامات بريطانيا الدولية أو يجحف بحقوق الأقليات أو الأجانب أو يتنافى مع مصالح البلاد (!) وعندئذ يحق للحكومة أن ترفع الأمر إلى عصبة الأمم. (المصدر ذاته ص59- 61).
وهكذا، فعلى الرغم من أن الحكم الوطني كان حكما وطنيا كاريكاتوريا إلى حد كبير من حيث خضوعه لبريطانيا، فقد "مات" مسودة على الورق قبل أن يصل إلى درجة المباحثات الرسمية، لتعارضه مع المصالح الإمبراطورية، كما فرضتها ظروف ذلك العصر ومع المشروع الصهيوني كما صاغة نظام الانتداب.
وبهذا الشكل اصطدام الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني اصطداما مباشرا مستمرا مع أماني الشعب العربي في فلسطين في التحرر والاستقلال، ولم يكن من الممكن حتى الخطو خطوات أولى في هذا السبيل وإقامة حكومة محلية كما كان الحال في الأقطار العربية المجاورة امتدادا من العراق حتى مصر.
لقد كان كل مشروع تعديلات دستورية يصطدم كذلك بعالمية الصهيونية أو أيديولوجيتها حول تعريف الشعب اليهودي بوصفه "شعبا عالميا". فالصهيونيون كانوا يعتبرون فلسطين وطنا "قوميا" للشعب اليهودي بأسره ولذلك أقاموا الوكالة اليهودية على هذا الاعتبار، ولم يكن من الممكن أن يقبلوا تمثيلا يقوم على أساس القائم في فلسطين بل على أساس ما سيكون.
وهذا ما أكده بن غوريون حين عالج مقترحات المجلس التشريعي التي جاءت في كتاب أبيض جديد صدر عام 1930 قال:
"نصادق على تغييرات دستورية تهدف إلى إعطاء السكان قسطا من الإدارة ولكننا نرفض بلا هوادة المجلس التشريعي الذي اقترحه الكتاب الأبيض. ونعد اليهودية (العالمية- أ.ت) والعمال والأمة العربية أن لا نقبل أبدا بأن يسيطر فريق قومي واحد في فلسطين على الآخر الآن أو إلى الأبد. وإذا كنا نقبل فكرة دولة يهودية حيث يحكم اليهود العرب، كذلك لا نقبل ازدواجية القومية في سويسرا أو كندا، فالحقوق في فلسطين لا تعود كما هو الحال في ذينك القطرين أي المواطنين الحاليين يهودا كانوا أم عربا، فالجوهر حق عودة اليهود المشتتين.
حق إعادة البناء والتطوير والحرية والسيادة بدون الإجحاف بحقوق الآخرين أو السيطرة عليهم" (ولادة إسرائيل مجددا ومصيرها دافيد بن غوريون مجموعة خطابات ومقالات 1954- 38).
وفي الوقت ذاته منح الانتداب في فقرته الخامسة والعشرين بريطانيا سلطة استثناء "الأراضي الواقعة شرقي الأردن" من سريان وعد بلفور. وبقيامها بذلك لأغراض استراتيجيتها في المنطقة استنفرت احتجاج المنظمة الصهيونية التي اعتبرت ذلك تقليصا إقليميا لبرنامجها.
الصهيونية في الممارسةولكن لا يمكن القول أن القادة الصهيونيين الواقعين توقفوا كثيرا عند استثناء شرقي الأردن من سريان مفعول وعد بلفور الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من الانتداب. لعلهم وافقوا الكاتب ج. س هورفيتس في كتابه "النضال من أجل فلسطين" حين كتب أن حدود الوطن القومي لم يتحدد أبدا.
"فالحدود النهائية، بداهة كان سيقررها في الدرجة الأولى (1) الأسلوب الذي ستستخدم فيه بريطانيا صلاحياتها الواسعة (2) ومدى تجاوب الصهيونيين مع فرصهم (3) ودرجة مقاومة العرب" (ص19).
ولا جدال في أن الأسطورة الإمبريالية- الصهيونية القائلة بتلاشي مقاومة العرب لنظام الانتداب والمشروع الصهيوني الكولونيالي مع الأيام، هدفت في الأساس إلى تضليل الرأي العام الذي لم يكن يقبل بسهولة إقامة وطن قومي على حطام شعب آخر وحقيقة كون المشروع الصهيوني مشروعا يقيم وطنا قوميا على حطام شعب آخر ظهرت في السنوات الأولى من الانتداب، فالفقرة الأولى حسمت وجهة التطور وجسمت الممارسة الصهيونية وقررت لذلك العلاقات اليهودية العربية.
ولمقاصد البحث من الممكن اعتبار الفترة الأولى، امتدادا بين المصادقة على نظام الانتداب والاصطدامات الدامية في عام 1929 وما أعقبها من كتاب أبيض صدر في 1930.
فما هي أبرز أحداث هذه الفترة وملامحها.
أولا: نمو السكان ففي حين توزع السكان بموجب إحصاء 1922 على الوجه التالي:
660 ألف عربي و83 ألف يهودي أصبح توزيعهم في 1929. 757 ألف عربي و164 ألف يهودي.
ثانيا: وخلال هذه السنوات تحولت الهستدروت التي قامت في عام 1920 لتكون أداة العمال اليهود في النضال الطبقي إلى أداة لتنفيذ سياسة العمل العبري أو احتلال العمل من العمال العرب الذين يعملون في المزارع والمنشآت اليهودية ومن هنا أصبحت أداة ممارسة المخطط الصهيوني الأساسية.
وفسر ولتر بريوس في كتابه "حركة العمال في إسرائيل" هذا الأمر بقوله "أن الجماهير الواسعة من العمال غير المنظمين (وأكثرهم من العرب) ألفوا هيئة منافسة ومارسوا ضغوطا على شروط العمل التي فاز بها العمال المنظمون مما جعل "الاعتراف القانوني" بمبدأ الاحتلال محتوما وضروريا" (ص90).
وكان س. ليفنبرغ في كتابه "اليهود وفلسطين" أكثر صراحة فكتب "أن على العمال اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم ضد استبدالهم بعامل عربي رخيص وغير منظم. ويعتقدوا زعماء العمال اليهود أن على العمال العرب في الوقت الحاضر أن يستخدموا لا في الاقتصاد اليهودي، بل في القطاع العربي والحكومي" (ص66).
وأكمل أ. س والدشتين الصورة في كتابه "فلسطين العصرية" فكتب يفسر احتلال العمل باعتباره عملية المحافظة على النفس:
"فاليهود لا يزالون أقلية في فلسطين. ومستقبلنا أن نصبح أكثرية فيها... وحتى يحقق ذلك الهدف لا نستطيع أن نسمح للعامل العربي أن يهيمن في الزراعة والصناعة على حساب العالم اليهودي وبذلك نهدد مستقبلنا ذاته في فلسطين" (ص140).
وبدون الاستشهاد بعدد آخر من الكتاب نستطيع القول أن هدف احتلال العمل كان خلق ممكنات أوسع لاستيعاب المهاجرين الجدد وتعميق الانعزالية اليهودية عن الشعب العربي في البلاد.
ويكتب ليفنبرغ أن العمال اليهود كانوا ينفذون سياسة قومية متكاملة لم يجدوا فيها أدنى تناقض مع البرجوازية اليهودية (الصهيونية) ألا بقدر استخدامها العمال العرب الأرخص!
والأمر المقرر في نهاية المطاف أن قادة العمال الصهيونيين وضعوا أسس الفرقة بين العمال العرب واليهود وعمقوها مع الأيام، وكانت مزاعمهم حول التعاون العمالي في المؤتمرات الدولية (النقابية والسياسية العمالية) مجرد ذر رماد في العيون.
رابعا: كذلك كان الاستيطان الزراعي الصهيوني انعزاليا عن الفلاحين العرب وعلى حسابهم في حالات كثيرة.
ودلت احصاءات الحكومة على أن عدد المستوطنات الصهيونية بلغ في عام 1922، 71 مستوطنة كما بلغت مساحة الملكيات اليهودية 59.000 دونم.
ونما عدد المستوطنات فأصبح في عام 1927، 96 مستوطنة واتسعت مساحة الملكيات فأصبحت في السنة ذاتها 903.000 دونم. (تقرير حكومة فلسطين ص373).
ومع هذا فاتساع الملكيات الصهيونية تم بشراء أراضي أسياد الأرض (وفي حالات عينية أسياد أرض غائبين) وبتشريد المزارعين العرب الذين كانوا يقتاتون من كدحهم فيها.
ويعتبر وايزمن في كتابه "التجربة والخطأ" بان المنظمات الصهيونية اقتنت 80 ألف دونم من سهل مرج بن عامر من عائلة أسياد الأرض الغائبين في لبنان عائلة سرسق وقد كانت عليها بضعة قرى عربية، ولكن يزعم أن هذه القرى العربية كانت "نصف مهجورة"! بسبب الملاريا (ص253).
وبتأييد جهاز الإدارة البريطانية حولت الصهيونية هذه القرى "نصف المهجورة" إلى قرى مهجورة تماما ومسحتها عن الوجود. أما أهلها فكانوا المشردين الأوائل من الشعب العربي الفلسطيني وان لم يتركوا البلاد آنذاك.
لقد زعم الصهيونيون اليساريون أنهم كانوا يقيمون استيطانا زراعيا اشتراكيا في فلسطين ولهذا كانوا يقيمون مجتمعا أرقى!.
فما هي حقيقة "اشتراكية الاستيطان الزراعي"؟
في دراسته "القوى الاجتماعية في فلسطين" تعرض أبراهام ريفوسكي إلى هذه القضية وكتب:
"مع أن المؤتمرات الصهيونية الأولى سيطرت عليها الطبقات الوسطى اليهودية و"المثقفون" فقد صادقت على مبدأ تأميم الأرض باعتبارها أهم أساس للدولة اليهودية في المستقبل... وبمصادقتها على مبدأ تأميم الأرض وبموافقتها على التجربة الاجتماعية الجريئة في التعاون الزراعي لم تتأثر المؤتمرات الصهيونية بالنظريات الاشتراكية، بل بالضرورة القومية".
ومضى إلى القول أن هذا الشكل كان ضروريا لأن الملكية الفردية في الأرض أصبحت عقبة أمام اتساع الهجرة، ولأن استخدام الأيدي العاملة العربية الرخيصة في المزارع اليهودية كان يهدد المشروع الصهيوني بأسره (باعتباره مشروعا قوميا انعزاليا متعصبا- أ. ت) 5-7.
ثم هناك الحاجة إلى المثالية. فالدعوة الصهيونية واجهت الدعوة الشيوعية الثورية، وخاصة في روسيا القيصرية، وأرادت التغلب عليها من أجل جذب العمال اليهود الذين انخرطوا فيها، ولهذا كان لا بد للصهيونية من أن تخضع توق العمال اليهود إلى المجتمع الاشتراكي لأغراضها ووجدت أن الدعوة إلى التعاون الزراعي تؤدي هذا الدور، فيتحقق الاستيطان اليهودي رغم المقاومة العربية ويمد المستوطنين بالمثالية، ولا يضر المشروع الصهيوني الرأسمالي في قاعدته وإيديولوجيته القومية المغالية في الانعزالية الرجعية.
وهذا يفسر لماذا "عطف" وايزمن ممثل البرجوازية في الصهيونية وقائدها أكثر من ثلث قرن على التعاون الزراعي.
ويكتب ريتشارد كروسمان في "أمة بعثت" أن وايزمن لم يكن يأبه بتنديد المتمولين اليهود بالكيبوتستات اعتقادا منه أنها حل مؤقت. (ص35).
وهذا ما لاحظه موريس ايدلمان في كتابه "بن غوريون سيرة حياة سياسية" حيث كتب: أن بن غوريون بعد قيام الدولة أراد أن يجذب إلى البلاد رؤوس أموال غربية، وهذا خلق تعقيدات للحركة العمالية التي قاومت الرأسمالية المالي وأرادت إقامة نظام مساواة تعاوني... وأضاف: ولكن حاجات التطوير "اضطرت" بن غوريون إلى أن يمنح المستثمرين فرصا لتوظيف أموالهم وهذا "انتهى الحلم الريفي". (علم المساواة التعاونية) (ص 165).
خامسا: وينتسب إلى هذه كتابة الحديث "العسكرية والسياسة في إسرائيل" فيعود إلى الطوائف اليهودية المشتتة ليرسم تطور القوة العسكرية الصهيونية التي أقيمت في فلسطين (ص 4).
كذلك يعتقد يغئال ألون أحد القادة العسكريين في القوة العسكرية الصهيونية في كتابه "بناء الجيش الإسرائيلي" أن البداية كانت في عام 1890.
ولكن بن غوريون الذي يمكن الاعتماد عليه يضع البداية في تعاونية (شجرة) في العقد الأول من القرن العشرين، و يصف بإسهاب كيف نجح في إقناع المسؤولين في التخلص من الحارس الشركسي واختيار حارس يهودي.
ومع هذا فالاتفاق كامل على أن قوى "الدفاع" الهجاناه تأسست (أو نمت من حركة الحراس) في 1920. وكانت في البداية تحت إشراف الهستدروت.
ويقول بن غوريون في محادثاته مع موشي بيرلمان في كتاب "بن غوريون ينظر إلى وراء" أن اسم المنظمة في البداية كان "فرق الدفاع والعمل" (جدود هجاناه فهعبودا). وكانت الإشارة إليها في البداية فرق العمل- بحذف الدفاع... ولكن باتساع فرق الدفاع وزدياد قوتها أصبحت تعرف بالهجاناه ولصق بها الاسم. ويضيف أن هذه القوى الدفاعية الضاربة انتقلت من أشراف الهستدروت إلى أشراف المجلس القومي اليهودي في عام 1930 (ص55- 56).
وفسر بن غوريون في هذا الكتاب الأسباب التي دعت إلى إقامة الهاجاناه فقال: للدفاع عن المستوطنات... وأضاف ولم يكن من المكن الاعتماد على الانتداب للدفاع عن هذه المستوطنات التي انتشرت في البلاد.... إذ أن ذلك كان يعني أن تصبح المقرر في عددها ومواقعها. (ص 57- 58).
وهكذا فقوة "الدفاع" الضاربة لم تكن قوة دفاع بالمعنى الحقيقي بل قوة هجوم ترافق الاستيطان الصهيوني الذي كان يجري حسب خطة مرسومة تأخذ بعين الاعتبار طاقة الصهيونية المالية والبشرية.
ويتضح من هذه الملامح أن الاصطدام مع الشعب العربي لم يكن محتوما فحسب، بل أن الصهيونية خططت له منذ البداية، امتدادا من جلب المهاجرين إلى إقامة قوة ضاربة تزرع قلاعا زراعية لا مجرد مستوطنات يعيش أفرادها على الزراعية.
سادسا: ومما جعل الهجوم يشمل جميع الجبهات قيام الصهيونيين بالتصنيع. لقد كان في بدايته في هذه الفترة، إلا أنه كان يوحي بالمستقبل خصوصا بعد ما منحت سلطة الانتداب امتياز الكهرباء لشركة تأسست في لندن برأسمال مشترك وعرفت بشركة روتنبرج.